[center]الْكَلِمَةُ الْحِكْمَةُ ضَالَّةُ الْمُؤْمِنِ
قال سيدنا محمد ╕ ((الْكَلِمَةُ الْحِكْمَةُ ضَالَّةُ الْمُؤْمِنِ حَيْثُمَا وَجَدَهَا فَهُوَ أَحَقُّ بها))”رواه ابن ماجة”، وكتمان السر من أسباب دوام المُلك للملوك وصفة واجبة لمن عمل معهم، أو بخدمتهم، ومن عجيب النوادر عن الْأَصْمَعِيُّ؛ قَالَ: سُئِلَ أَعْرَابِيٌّ، فَقِيلَ لَهُ: كَيْفَ كِتْمَانُكَ السِّرَّ؟ فَقَالَ: أَنَا لَحْدُهَا، وسُئِلَ الْأَحْنَفُ بْنُ قَيْسٍ: مَا الْمُرُوءَةُ؟ قَالَ: كِتْمَانُ السِّرِّ، وَالتَّبَاعُدُ مِنَ الشَّرِّ «المجالسة وجواهر العلم»، وفي كتاب الديباج للختلي قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي طَيِّبَةَ الْجُرْجَانِيُّ: كَانَ مُحَمَّدُ بْنُ رَزِينٍ الْجُرْجَانِيُّ ذَا عقلٍ وَذَا مالٍ، فَقَالَ يَوْمًا: وَدِدْتُ أَنِّي واجدٌ رَجُلا أُشْرِكُهُ فِي بَعْضِ مَالِي فَيَنْتَفِعُ بِهِ بلا مؤونةٍ عَلَيْهِ، فَقِيلَ لَهُ: فَمَا تَصْنَعُ بِمِثْلِ هَذَا؟ قَالَ: أُحَدِّثُهُ، وَأَسْتَرِيحُ إِلَيْهِ، وَيَكْتُمُ عَلَيَّ لا غير، وَقَالَ:
وَإِذَا اسْتَوْدَعْتَ سِرًّا فَارْعَهُ ... لِيَكُنْ قَلْبُكَ لِلسِّرَّ قفل
وقال:
السِّرُّ عِنْدِي دفينٌ ميتٌ أَبَدًا ... أَمْشِي عَلَيْهِ وَلا تَمْشِي بِهِ الْقَدَمُ.
وبالجملة إذا زال سرك من عذبة لسانك فالإذاعة للسر قائمة وإن أودعته قلب غيرك، فلا تفش سرك إلا إليك، وكان يقال أصبر الناس من صبر على كتم سره، ومن كلام الحكماء ((ما كتمته عن عدوك فلا تطلعن عليه صديقك)) فإن لم يكن لك بد من إذاعته ودعت الضرورة إلى ذلك فاجعله عند مستشار ناصح مسالم فمن صفات أمين السر أن يكون ذا عقل ودين ونصح ومودة فإن هذه الأمور تمنع من الإذاعة وتوجب حفظ الأمانة، وعلى صاحب السر أن يحترز من مستدعيه منه (أي طالبه) لدلالة استدعائه على الخيانة فقد قيل لا تودع سرك عند من يستدعيه فإن طالب الوديعة خائن وخصوصا إذا ألح على ذلك ، فمن الأمثال السائرة «الحرص على الأمانة دليل على الخيانة» (ومعنى الحرص على الامانة أي ان الانسان يطلب ان توضع عنده الامانات)، وامنع سرك عن غير المرغوب بهم كالثرثار وان كان بطلا، والنساء، ولغير الأمين، وإن احتاج المجاهد إلى المناورة لإخفاء السر عن العدو فله ذلك للحفاظ على سر المجاهدين الذين يمثلون الدين والوطن، وقص علينا القرآن في ذلك حين أفشى سيدنا يوسف ╘ سره في رؤيته لوالده بحضور امرأة أبيه والتي أخبرت إخوته بها بعد المجلس فحل به ما حل، وأن كتمان الأسرار يدل على جوهر الرجال وكما أنه لا خير في آنية لا تمسك ما فيها كذلك لا خير في الإنسان إذا لم يملك سره، قال الحكماء: «صدور الأحرار قبور الأسرار»، ولكتمان الأسرار فوائد شاهدة بفضله.
الفائدة الأولى: دلالته على فضل صاحبه وكرم أخلاقه.
الفائدة الثانية: الاستعانة به على حصول المقاصد ففي الحديث الشريف قال سيدنا رسول الله ╕ ((استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان فإن كل ذي نعمة محسود))«رواه الطبراني».
الفائدة الثالثة: منْ حَصّنَ سره فله بتحصينه خصلتان الظفر بحاجته، والسلامة من الفتن.
الفائدة الرابعة: حفظ السر أمان لصاحبه من أن ينقلب عليه، فعن سيدنا علي بن أبي طالب ╜ «سرك أسيرك فإذا تكلمت به صرت أسيره».
وقال احد الحكماء: «من اظهر سرا أراق دم صاحبه وصرفه عن بلوغ أمله ولو كتمه أمن سطوته»، وقال أيضا «سرك من دمك فلا تجريه في غير أوداجه وإذا تكلمت به أرقته»، قيل لبعض الحكماء أي شيء أصعب على الإنسان قال أن يعرف نفسه ويكتم سره فلم يبده لصديقه، وقال احد الحكماء: «إن الرجل يتحمل الحمل الثقيل فيمشي به ويحمل السر اليسير فيلحقه من القلق والكرب مالا يلحقه بحمل الأثقال فإذا أذاعه استراح قلبه وكأنما ألقى عن نفسه حملا، وضياع أمانة السر بكثرة الأمناء عليه»، وقال ايضا «ومن عجيب الأمر أن إغلاق الدنيا كلما كثر خزانها كان أوثق لها إلا السر فإنه كلما كثر خزانه كان أضيع له» لذا قالوا «أقلل الشركاء في أسرارك تنكتم، وقد قيل أدنى أخلاق الشريف كتمان السر وأعلاها كتمان ما أسرّ به إليه»، وكان يقال أن رجلا أودع سره عند أحد إخوانه فقال له أفهمت فقال بل جهلت قال حفظت قال بل نسيت وفي معناه قيل: ـ
يا ذا الذي اودعتني سره
لا ترج أن تسمعه مني
لم أجره قط على خاطري
كأنه لم يجر في أذني
قال الجاحظ ╡ «من أخلاق الملك أن يكتم أسراره عن الأب والأخ والزوجة والصديق فإن الملك يتجاوز عن كل منقوص ومأنوف» وفي الحديث الذي رواه ابن ماجة ╡ ((فَإِنَّمَا الْمُؤْمِنُ كَالْجَمَلِ الْأَنِفِ حَيْثُمَا قِيدَ انْقَادَ)) أي مأنوف وأصلُ الحديث (وَعَظَنَا رسول اللَّهِ ╕ مَوْعِظَةً ذَرَفَتْ منها الْعُيُونُ وَوَجِلَتْ منها الْقُلُوبُ فَقُلْنَا يا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ هذه لَمَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ فَمَاذَا تَعْهَدُ إِلَيْنَا قال قد تَرَكْتُكُمْ على المحجة الْبَيْضَاءِ لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا لَا يَزِيغُ عنها بَعْدِي إلا هَالِكٌ من يَعِشْ مِنْكُمْ فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا فَعَلَيْكُمْ بِمَا عَرَفْتُمْ من سُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ عَضُّوا عليها بِالنَّوَاجِذِ وَعَلَيْكُمْ بِالطَّاعَةِ وَإِنْ (عَبْدًا حَبَشِيًّا)فَإِنَّمَا الْمُؤْمِنُ كَالْجَمَلِ الْأَنِفِ حَيْثُمَا قِيدَ انْقَاد)) صدق رسول الله ╕، ولا يتجاوز الملك عن ثلاثة طاعن في ملكه، ومذيع لأسراره، وخائن في حرمه، وقد كان أحد الحكماء يقول «يجب على السلطان السعيد أن يجعل همه كله في امتحان أهل هذه الصفات إذ هي أركان ملكه ودعائمه»، ومن المنقول في الوصية بحفظ سر السلطان وعقوبة من إفشاء حكايتان:
الحكاية الأولى: قال العتبي أسرَّ معاوية ╜ إلى عثمان بن عتبه ╜ حديثا قال عثمان ╜ فقلت لأبي أن أمير المؤمنين ╜ أسر إلي حديثا افأحدثك به قال لا قلت ولم، قال لأنه من كتم حديثا كان الخيار له، ومن أظهره كان الخيار عليه فلا تجعل نفسك مملوكا بعد أن كنت مالكا ، قلت أيدخل هذا بين الرجل وبين أبيه قال نعم ولكن أكره أن تذلل لسانك بإفشاء السر قال فحدثت به معاوية فقال أعتقك أخي من رق الخطأ.
الحكاية الثانية: كان لسيدنا عثمان بن عفان ╜ كاتب يقال له حمدان فاشتكى عثمان ╜(أي تمرّض) فقال أكتب العهد من بعدي لعبد الرحمن ابن عوف ╜ فانطلق حمدان وقال لعبد الرحمن بن عوف ╜ البشرى فقال عبد الرحمن ╜ ولك البشرى ماذا فأخبره حمدان الخبر فانطلق عبد الرحمن ╜ وأخبر عثمان ╜ بذلك فقال عثمان ╜ عسى الله أن شفاني لا يكاتبني حمدان أبدا ونفاه إلى البصرة فلم يزل بها حتى قتل عثمان ╜، وهذا الكلام اشد ماتكون الحاجة له اليوم إذ أن من اهم قواعد الجهاد حفظ السر لأن افشاءه يمكن العدو من المسلمين لذا لما كان رسول الله ╕ يهم بغزوة الى مكان لا يفشي خبرها ويوري بها الى مكان اخر وصلى الله على سيدنا محمد وعلى اله وصحبه وسلم تسليما كثيرا كثيرا.