العراق والطريق الى الدولة المدنية
--------------------------------------------------------------------------------
أظهرت أزمة تشكيل حكومة عراقية - بعد أكثر من تسعة أشهر من الانتخابات البرلمانية التي جرت في شهر مارس 2010 - الكثير من الحقائق عن طبيعة النظام السياسي الذي أقيم إثر الغزو الأمريكي للعراق، وإسقاط نظام صدام حسين، وانهيار دولة حزب البعث الشمولية.
وأهم ما أبرزته هذه الأزمة هو فشل مشروع إعادة بناء الدولة في العراق بسبب قيامه علي ركائز نظام هجين للمحاصصة الإثنو- طائفية، وعلي أساس تقاسم وظيفي للسلطة والثروة بين أفراد طبقة سياسية جديدة، أتاحت لها ظروف الاحتلال الهيمنة علي مقاليد الحكم.
لم تنجح هذه الطبقة السياسية، التي تبنت مطالب الجماعات القومية والمذهبية، في تحقيق الشعار الذي تبنته بإقامة نظام ديمقراطي تعددي. لقد اتضح عقم تجربة الانتخابات في أن تؤسس لنظام ديمقراطي راسخ، كما غابت التوافقية الحقيقية، باعتبارها أساس التعددية، واستبدل بها نظام تحاصصي. في ظل ذلك كله، تنامي الإحساس بالمصالح الفئوية الإثنية والطائفية، مصحوبة بغياب الإرادة والمصلحة الوطنية، مما يضرب ركيزة مبدأ الدولة التعددية الاتحادية الناشئة.
من ناحية أخري، ظهر انكشاف هشاشة مشروع بناء الدولة العراقية الجديدة أمام التدخلات الخارجية، خاصة الإقليمية. وأضحت الأخيرة - من خلال دورها في تشكيل الحكومة - عاملا أساسيا، ليس فقط في توجيه مسار العملية السياسية في العراق، بل وفي تقرير مصيره، مما سيضع كامل مشروع إعادة بناء الدولة العراقية تحت رحمة العامل الخارجي، مهما تكن الذرائع وراء ذلك. يتم ذلك كله من خلال خرق واضح ومتعمد ومتكرر للدستور الذي كتبته الجماعات الفاعلة، ولأسس العملية السياسية التوافقية التي صاغتها، ولمفاهيم المصالحة والوحدة الوطنية، ولكل القيم والمبادئ التي تقام عليها مشاريع بناء الدول، خاصة تلك الخارجة لتوها من تجارب الاحتلال والغزو والتدمير.
إن الحل الوسط الذي خرجت به الجماعات المتنافسة للأزمة - مهما يكن نصيبه الضئيل من النجاح في التطبيق خلال الفترة القادمة - لن يخرج عن كونه حلا مؤقتا، لن يضع نهاية للمأزق الوطني في العراق. يطرح ذلك بإلحاح ضرورة وجود بديل راسخ من خلال السعي لإطلاق مشروع وطني لبناء الدولة المدنية الديمقراطية الدستورية القائمة علي مبدأ المواطنة والحرية والعدالة والمساواة، بغض النظر عن الدين والعقيدة والمذهب والجنس واللون.
تطرح فكرة بناء الدولة المدنية نفسها في العراق كقضية ملحة منذ سقوط نظام صدام حسين، وانهيار الدولة العراقية الحديثة التي شكلت عام 1921 . إذ لم يكن ممكنا الإطاحة بالدولة العراقية من خلال التدخل الخارجي إلا بسبب ضعفها وهشاشة بنائها السياسي والاجتماعي، وإخفاقها في أن تكون دولة - أمة جامعة لكل مواطنيها. أدي ذلك بالتالي إلي تحول العراق إلي دولة - أقلية تحت سيطرة نظام استبدادي قمعي، مقابل أكثرية رافضة، أو متشككة، مما حرمه من عناصر المناعة الذاتية، ووضع الدولة العراقية في النهاية في مأزق دائم ساعد في سقوطها السريع والمدوي في قبضة الاحتلال الأجنبي.
لم تطح الحرب، والاحتلال الذي أوجدته، فقط بالدولة من خلال تدمير ركائزها الأساسية كالحكومة والجيش والقوي الأمنية والعديد من المؤسسات الأخري، بل ساعدت أيضا علي انهيار المجتمع وتمزيق نسيجه الوطني، وتشظيه إلي هويات ثانوية متعددة علي حساب الهوية الوطنية الجامعة. أدي نظام المحاصصة الإثنو- طائفي الذي أقيم بعد الاحتلال كصيغة توافقية إلي ترسيخ وضع طائفي صراعي، مزق وحدة المجتمع، كما حول الدولة إلي مشروع خدمي للواجهات الطائفية والإثنية التي هيمنت علي السلطة، بدلا من أن يقيم دولة وطنية حديثة ونظاما تعدديا تشاركيا، قائما علي أساس الشراكة والعدالة والمواطنة ودولة المؤسسات والقانون.
أدي تعثر العملية السياسية الجارية والأزمات العديدة التي تلاحقها إلي مأزق وطني شامل، يشمل إمكانية نكوص العملية السياسية الحالية، وسقوط مشروع إعادة بناء الدولة برمته، ووقوع العراق في فخ النزاعات الأهلية المستدامة. ولا يمكن تفادي ذلك ما لم تتم إعادة النظر في الأسس السياسية والدستورية والقانونية التي وضعت تحت صيغة التوافق الوطني، والتي تحولت بالممارسة إلي مجرد نظام محاصصة لاقتسام السلطة والثروة بين أفراد الطبقة السياسية المتكونة بفعل الاحتكار والإقصاء والهيمنة والتبعية، لا في إطار السياق الطبيعي لعملية إعادة بناء الدولة والمجتمع.
يستدعي هذا المأزق ضرورة قيام الدولة المدنية في العراق، في المقام الأول، من أجل حل الإشكالية التاريخية لمأزق الدولة العراقية منذ تأسيسها، خاصة فشلها في إقامة نظام ديمقراطي حقيقي، وتحقيق مبادئ المواطنة والمساواة والعدالة. إن إعلاء مبدأ الدولة المدنية يضمن حل إشكالية التوزيع العادل للسلطة والثروة في إطار مؤسسات وتشريعات تسهر علي تحقيق مبدأي المواطنة والتلاحم الوطني اللذين يعتبران حجر الزاوية في بناء دولة متعددة الأعراق والأديان والمذاهب.
كما تشكل الدولة المدنية حلا للأزمة الحالية المتمثلة في تعثر العملية السياسية الناشئة عن الاحتلال وتدمير الدولة والمجتمع، وما صاحبها من عنف وإرهاب. فالدولة المدنية هي ضمان وحام للأمن والاستقرار، والسلم الأهلي، والحرية، وحقوق الإنسان، والرفاهية التي هي جميعها عوامل رادعة للصراعات الطائفية والإثنية.
من ناحية ثالثة، تضمن إقامة الدولة المدنية استقرار ووحدة العراق، بما يمنع من انهياره وتقسيمه، مما سينعكس علي الأمن والاستقرار في الإقليم. إن إحدي مهمات الدولة المدنية هي تحصين البلد ضد التهديدات والتدخلات الخارجية، إذ إن هناك علاقة عكسية بين الدولة المدنية والصراعات الإثنية المنتجة للفوضي والعنف وانهيار القانون في الداخل، والتي تستدعي بدورها التدخلات الخارجية.
لقد أثبتت تجربة العملية السياسية الجارية منذ ما يقارب ثماني سنوات استحالة الاستمرار في إدارة الحكم بالعراق بالطريقة 'التوفيقية'، وليس النظام التوافقي كما يدعي. فالنتيجة الواضحة لما جري خلال الدورتين الانتخابيتين عامي 2005 و 2010، هي أن البلد في حالة شلل تام، وغير قادر علي النهوض من حالة الانهيار والدمار الذي أصابه، نتيجة الغزو وتحلل الدولة. هذا الأمر يستدعي إيقاف العملية السياسية العقيمة، التي تعيد إنتاج الفوضي والصراعات والعنف، والبدء من جديد بمشروع إعادة بناء الدولة، كدولة مدنية لكل مواطنيها، بغض النظر عن اختلافاتهم الإثنية.
تتضمن أدبيات الدولة المدنية، منذ جان جاك روسو وجون لوك، الكثير من التفاصيل عن فلسفتها وأهدافها وغاياتها. وقد أنتجت البشرية عبر تاريخها الحديث الكثير من التجارب الناجحة والواعدة في هذا الصدد، مما يمكن أن يثري التجربة العراقية عند انطلاقها، ولو علي أساس الخصوصية العراقية المستندة إلي الحاجات والظروف الوطنية، وكذلك الإمكانيات والطاقات الكامنة.غير أن الغاية الأساسية تبقي هي التأسيس عبر فترة انتقالية محددة لدولة مدنية دستورية ديمقراطية لكل مواطنيها.
يجب أن يبدأ مشروع إقامة الدولة المدنية من نقطة إعادة النظر في مجمل الأسس الدستورية والقانونية والسياسية، والتخلص من نظام المحاصصة الطائفية السياسية. كما يجب الأخذ بنظر الاعتبار مطالب الجماعات الإثنية وحقوقها بالمساواة السياسية في إدارة السلطة والثروة، ومصالحها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، بمستوياتها المادية والرمزية.ويتطلب ذلك إقامة نظام ديمقراطي قائم علي الشراكة والمساواة الكاملة والتعددية وتبادل السلطة، وكذلك تعزيز قدرات الدولة علي مواجهة النزعات الشمولية والاستبدادية لدي الجماعات والأفراد المشاركين في النظام السياسي. وفي هذا الإطار، يمكن المواءمة بين متطلبات إقامة نظام قائم علي اللامركزية ودرجة أكبر من تمثيل الجماعات الإثنية، وضمان حقوقها، مع ضرورة بناء دولة قوية محصنة ضد التهديدات الداخلية والخارجية.
كما تتطلب مهمات مشروع الدولة المدنية ترسيخ جهود الاندماج المجتمعي، وتعزيز الهوية الوطنية، من خلال تأكيد مبدأ التنوع داخل الوحدة، وإدارة التعددية السياسية والثقافية، من خلال التقريب بين قدرات النظام السياسي وقدرات الجماعات الإثنية والطائفية وتنظيمها.إن أحد إخفاقات العملية السياسية الجارية هو عدم قدرتها علي تعزيز التعددية في إطار الاندماج الوطني والمشاركة كما كان ينبغي. بل لقد أوجدت هذه العملية حالة من التفتت والتشرذم، وبيئة من الكراهية والأحقاد والضغائن، وتحولت إلي سلاح للتعصب والتشدد والتطرف. أصبحت التعددية غطاء للمحاصصة الطائفية التي أسست لحالة طائفية سياسية ومذهبية شديدة العنف، عززت بدورها حالة الاستقطاب المجتمعي التي عملت علي تمزيق النسيج الوطني، وتدمير الهوية الوطنية لحساب الهويات الكيانية الصغري.
لذلك، من الضروري أن تتم إعادة فرز وتحديد علاقة الدولة بالهويات الدينية والطائفية والعرقية، وتأكيد اتباع سياسات اجتماعية وثقافية غير طائفية أو إثنية التوجه تستهدف المواطنين عامة. إن خاصية التنوع الديني والمذهبي والقومي في العراق تشكل عاملا مساعدا في تقليل فرص إقامة الدولة الدينية أو الشوفينية، وهو الأمر الذي يحتاج إلي دعمه بالتشريعات الدستورية والقانونية اللازمة.ويأتي علي رأس هذه المهمات تعزيز معادلة الخصوصية مع الانتماء الأكبر للوطن وللجماعة الوطنية، وردم الفجوات القائمة بين الهوية الصغري والهوية الوطنية الكبري، والسعي لتفكيك الحالة التصارعية بينهما.ويتطلب ذلك أيضا نشر ثقافة المواطنة، والتي تبدأ بترسيخ قيم الانتماء للوطن ووحدته والشراكة بين مكوناته والتفاني له، وذلك من خلال خطاب وأفكار وإعلام تعمل كلها علي تطوير الثقافة الوطنية، بدلا من تعزيز الثقافة التي تدفع إلي التقوقع علي الذات وعدم التفاعل مع الآخر وكراهيته.
وتعتبر التنمية الاقتصادية، والتوزيع العادل للثروة، وإيجاد فرص العمل، ومأسسة تقديم الخدمات، وتحقيق العدالة الاجتماعية، من خلال نظام للرفاه الاجتماعي، من المهمات الرائدة للدولة المدنية، التي تهدف إلي تحقيق نهضة حقيقية. الركيزة الأساسية لهذه الدولة هي تدعيم نوعية الحياة، وتعزيز حقوق المواطن في التنعم بحياة كريمة، وانتشال العراقيين من حالة التعاسة والبؤس التي استولت عليهم. ويتطلب كل ذلك وضع سياسات اقتصادية ضمن برنامج وطني شامل للتعمير والتنمية، وعلاج عدم التوازن الاقتصادي بين المناطق المختلفة، وتصحيح الاختلالات الهيكلية في القطاعات الاقتصادية المختلفة، ووضع سياسات نفطية توازن بين المصالح الوطنية والتنموية، والحاجة للاستثمارات الأجنبية ومتطلبات السوق.
وفي هذا الإطار، تتولي الدولة المدنية مهمة العمل علي القضاء علي الفساد بكل أنواعه، الذي أصبح إحدي العقبات الأساسية في عملية بناء الدولة العراقية، وإعادة ثقة المجتمع بها وبأجهزتها التي اهتزت خلال سنوات الفوضي الأخيرة. فهناك الفساد السياسي من خلال استغلال الجماعات السياسية للدولة ومؤسساتها بغية تحقيق مكاسب شخصية أو فئوية للتأثير في توزيع الموارد الوطنية، وعملية صنع القرار بالطريقة التي تنعكس سلبيا علي التنمية الاقتصادية والاجتماعية وتحقيق العدالة. كما أن هناك الفساد الإداري والمالي المتمثل في الرشاوي والابتزاز ونهب المال العام الذي يدمر أسس بناء الدولة، من خلال إضعاف قدراتها الإدارية وسلطاتها التشريعية والقانونية، والإخلال بهيبتها وبآليات تطبيق القانون. يؤدي هذا الفساد إلي نشوء الصراع بين المواطنين المتطلعين إلي الخدمات وإلي الحصول علي حقوقهم القانونية والدستورية، وبين بيروقراطية فاسدة، متخندقة وراء صلاحيات وسلطات غاشمة.
إن قدرة الدولة المدنية علي محاربة الفساد تتأتي من خلال قدرتها علي بناء المؤسسات الرقابية، وأجهزة المحاسبة، وتعزيز الشفافية، وسلطة الصحافة، وتطبيق القانون بحزم. كما يتناقض جوهر فكرة الدولة المدنية القائم علي الحرية والعدالة والمساواة وتكافؤ الفرص تماما مع أساليب الابتزاز والرشاوي والصفقات المشبوهة، والتطفل علي النشاط الاقتصادي، وأي مظهر من مظاهر الفساد المالي والإداري.
يعد إنهاء المأزق الوطني الذي نشأ عن احتلال العراق وتداعياته أبرز أهداف بناء الدولة المدنية في العراق. يتم ذلك من خلال تحقيق مصالحة وطنية راسخة، ترتكز علي مبادئ موازنة التوقعات التي لدي الجماعات المتنافسة مع الموارد، وتوازن المصالح، والوصول إلي حلول تفاوضية بشأن توزيع الثروة والسلطة، وإحقاق العدالة، وإنهاء أعمال العنف، وثقافة العنف التي ترسخت. وإذا كانت المصالحة شرطا، أو طريقا وحيدا، لإنهاء العنف، فإن أية مصالحة لا يمكنها أن تقوم من دون معالجة أخلاقية وسياسية وقانونية ودستورية جذرية لآثار كلتا الفترتين الديكتاتوريتين اللتين قادهما حزب البعث، والصراع الأهلي الذي أعقب سقوطه. وتمتلك الدولة المدنية من خلال أجهزة العدالة والقانون معالجة الجروح العميقة التي خلفتها هاتان الفترتان، وتعويض الضحايا ماديا ومعنويا، مثلما تتيح الفرصة في محاسبة المجرمين ومنع العودة إلي تلك الممارسات المدمرة في المستقبل.
لم تجر إلي الآن أية جهود حقيقية لإعادة بناء الدولة في العراق، ولا حتي الشروع في بناء مؤسساتها، وذلك نتيجة لانشغال الجماعات السياسية بالصراع الضاري علي السلطة. يفسح ذلك المجال للشروع في عملية بناء الدولة المدنية من البداية، وهي مهمة تتطلب عملا سياسيا، ودستوريا، وقانونيا، واجتماعيا تنظيميا دءوبا. وقد أثبتت أزمة تشكيل الحكومة أن أسلوب المحاصصة الذي تم اللجوء إليه كطريقة للمشاركة السياسية هو أسلوب فاشل، مما يحتم البحث عن سبل أكثر نجاعة لإنهاء أزمة الحكم في العراق، من خلال بناء الدولة المدنية. إن بناء الدولة المدنية لا يترتبط بنوع نظام الحكم، سواء أكان مركزيا أم غير مركزي، أم فيدراليا، كما لا يمنع من أن يظل الحكم توافقيا علي أساس الحقوق والواجبات التي تكرسها مبادئ الدولة المدنية، وعلي رأسها مبدأ المواطنة.
إن الحاجة لبناء دولة مدنية في العراق هي ضرورة قصوي تتطلبها مهمة إيقاف موجات التعصب الطائفي والعنف المرافق له - والذي شل الدولة، وعطل حركتها - والتصدي لاحتمالات انهيارها، وتقسيم البلاد علي أسس عرقية ومذهبية. فالدولة المدنية التي تبيح الحريات الأساسية، وتقيم نظام العدالة والمساواة والحريات هي أيضا الدولة القوية التي تقيم سلطتها وهيبتها في فرض النظام العام والأمن والقانون، وإنهاء حالة الانفلات الأمني والإرهاب، وتوفير الأرضية الملائمة لتحرر المجتمع من هيمنة وتدخلات الجماعات السياسية التي تمتلك قوي مسلحة وميليشيات.