تصوّرات المتعلمين
في
المسار التعلّمي التعليميّ
تأليف غازي الزيش
متفقد أول المدارس الابتدائية بالمنستير2
يفسّر الاهتمام المتزايد بيداغوجيا المواد في الحقل التربوي بالتغييرات الجرية و الايجابية التي استفادت منها الممارسة التربوية اليومية، و بالنقلة النوعية على مستوى هذه الممارسة و بتحسن مردود المتعلّم، و بالتالي كفاية المؤسسة التربوية. و هذه الإسهامات، هي ما اصطلح على تسميته بالثورة الكوبرنيكية في الميدان التربوي، حيث تحوّل مركز الاهتمام الذي كان منصبّا على المعرفة إلى المتعلم ليصبح فاعلا ة مؤثرا و منتجا و بانيا لهذه المعرفة، الأمر الذي جعل بيداغوجييا المواد أو التعلّمية أكثر فروع علوم التربية تفتّحا على بقية العلوم ببغية توظيف بعض مفاهيمها القادرة على تطوير الفعل التربوي نحو الأفضل... فكان الأخذ من النظرية البنائية البياجسية و نظرية العوائق الابستمولوجية "لباشلار" والنظرية النفسية – الاجتماعية لـ"موني و دواز" و أصبحت هذه المفاهيم جزءا لا يتجزّأ من قناعات و تطبيقات المعلّم الذي أضحى حريصا كل الحرص على مراعاة الجوانب النفسية و الذهنية و اللعلائقية في عمله اليومي، و من ذلك أن ببناء المعرفة أصبح يتطلب منه أن يأخذ في الاعتبار تصوّرات المتعلمين القبلية...فما هي هذه التّصوّرات؟ و لماذا هذا الاهتمام المتزايد بها؟ و بالتالي، هل تُسهم في بناء المعرفة أم تحول دونه؟ و هل من خطر في التغاضي عنها؟
لقد ساد الاعتقاد، و لفترة طويلة، بأن الطفل صفحة بيضاء خالية من نقش يفعل فيه المربّي ما يشاء. و لذلك كانت الطرائق التربوية المعتمدة تلقينيّة دغمائية تهمّش منزلة المتعلّم و تفرض عليه التّقبل و التّلاقّي و الاكتفاء باستهلاك المعرفة و عدم الإسهام في بنائها أو اختيارها...و هذا التوجه، رغم سلبياته و نقائصه، لم يكن هشّ الأركان و الأسس بل كان يعتمد أسسًا فلسفية صلبة تستمدّ جذورها من فلسفة "أرسطو".
إلاّ أنّه، و بظهور بيداغوجيا المواد في مطلع الستينات من القرن العشرين، تبلورت عديد الرؤى البيداغوجية لتجعل عمل المعلّم مواكبا في جوهره لمقتضيات الحداثة التي انبنت أساسا على إبراز مفهوم الفرد و الاعتراف بحقوقه، فكان الاهتمام المتزايد بالمتعلّم و بظروف تعلّمه، و كان التفكير في تجاوز العوائق التي تحول دونه و التّعلّم...فماهي المستجدّات في هذا المجال و تحديدا في مجال تصورات المتعلّمين؟
يقول "قاستون باشلار" في كتابه تكوين العقل العلمي :ِ "تُبنى المعرفة على أنقاض معرفة أخرى". هذا المبدأ كان له كبير الأثر على سيرورة بناء المعرفة. و لتوضيح ذلك، لابدّ من بيان نقيضه.
إذا سلّمنا بأن المتعلم يأتي إلى القسم محم لاّ إ لا بزاد معرفي قبليّ، فإنّ المتعلم يجد نفسه مضطرّا للتعامل معه بأسلوب معيّن يسمح له بالاستماع إلى هذه التصورات و تقبّلها و عرضها للنقاش بغية التعديل أو الطرح أو التجاوز...لكن ما لا يحصل عادة؟
يقرّر الدّرس و يحدّد له مراحل و يعدّ الوسائل الملائمة و الضّرورية و يَحين موعد الدرس لتجده مسكونا بهاجس الإتيان على مراحل هذا الدرس فيطويها مع ضمان مشاركة محتشمة لبعض المتعلّمين يطغى عليها الأسلوب الاتجوابي... و بهذه الطريقة ينجز الدرس تلو الآخر في مادة الإيقاظ العلمي مثلا، و تتراكم بذلك المعرفة و يُفاجأ المعلم زمن التقويم بأنّ جهوده التي بذلها كانت عقيمة و أنّ ما أراد تبليغه إلى المتعلمين من معارف مشوّهة و قبل علمية إلاّ أنّها متمكّنة منهم.
فما هو مردّ هذه المقاومة و كيف السبيل إلى تجاوزها؟
يحدّد "باشلار" أسباب هذه المقاومة و يردّها إلى عوائق اِبسمولوجية، فيتحدّث عن العائق الإحيائي و العائق الجوهري و غيرها، و لتوضيح ذلك، لابدّ من الاعتماد على بعض الأمثلة المستمدّة من واقع القسم.
في مادة الإيقاظ العلمي يتعرّض المتعلّمون في باب الفيزياء تحديدا، إلى مفهوم الظّلال و النور، و الطفل له من المكتسبات الشيء الكثير في هذا المجال منها الوهمي و منها الخرافي الأسطوري. فهو يعتقد أن القمر يتبعه ليلا و يرافقه في حلّه و ترحاله، و يتصوّر أن الشمس تتحرك و الأرض ثابتة، بل و لا يقدر على تصوّر غير ذلك، و يرى أيضا أن الأرض مسطّحة...لإذن، هذه جملة تصوّرات تلازم ألا و هي فترة التّشوف العفوي حيث يفسح المجال لتلقائية المتعلم ليطرح كل تصوّراته من الظاهرة موضوع الدرس فينصت المعلّم إلى كل التّدخلات و يتفطّن إلى مواطن الخلط و الغموض و التشويه فيساعد المتعلمين على التخلّص منها بإبراز محدودية تفسيرهم للظاهرة أو يبيّن لهم مدى تعارضها مع أسلوب التفكير العلمي المنشود و المعمول به في مثل هذه الدروس، بذلك فقط يقتنع المتعلّم بأنّ ما كان يعتقده صوابا هو الخطأ و يشعر برغبة جامحة إلى المعرفة الحقيقية فينتبه و يساهم بفعالية في بناء الدرس و يتملّك المعرفة و يتبنّها و يصبح مدافعا عنها.
و في مجال تدريس الرياضيات فإنّ المعلّم الذي لا يتفطّن إلى الثغرات الحاصلة على مستوى تصوّرات و ترقيات متعلّميه، لا يقدر على مساعدتهم في بناء المعرفة. ففي دروس الهندسة و تحديدا في مستوى مفهوم المساحة، نجد المتعلّم و خاصة في الأقسام الصغرى، لا يتصوّر بوضوح هذا المفهوم ذلك أنّه ألف قيس الأطوال ذات البعد الواحد فقط. و برمجة هذا المفهوم تقتضي من المعلّم أن يقف على مكتسبات منظوريه بتخصيص فترة تحسيسية تعتمد التّحسس التجريبي و تسمح بالمحاولة و الخطأ ليتمكّن في مرحلة موالية من تعديل التصورات الخاطئة و يتوصّل معهم بطريقة علمية إلى التعامل مع المساحة كفكرة أوّلا ثمّ كقيس باستعمال الوحدات الموافقة لها.
لذلك كلّه كانت فترة تقبّل تصوّرات المتعلّمين محيّدة للمسار التعلّمي – التعليمي و معينة للمتعلّم على بناء المعرفة، خصوصا إذا علمنا أن هذه الفترة تعتمد مبدأ الموازنة (بياجيه) ذلك أنّ بناء المعرفة في ظلّ البنائية البياجسية هو سلسلة متواصلة من فقدان التوازن و استعادته ضمن مسار لولبي،تطوّري ينشد التوازن الأفضل و الأمثل ( le plus-value ) و يثمّن تصورات المتعلمين التي لابدّ من طرحها لتجاوزها و إحداث الإرباك النفسي لدى المتعلم ليحصل له التعطش إلى المعرفة العلمية و كذلك الاستعداد و القدرة على التمثل و التّملك.
لكن، هل أنّ اعتبار تصوّرات المتعلمين في بناء المعرفة كاف لوحده، أم أنّ هناك عراقيل أخرى تحول دون البناء السليم للمعرفة ؟
أجل، إنّ بعض المفاهيم العلمية المقرّرة ضمن البرامج الرسمية لا يقدر المتعلّمون على استيعابه و تملّكه و لو تقيّد المعلّم بالمسار التعلّمي و اعتبر في كل مراحله تصوّرات المتعلمين... و هنا، تطرح قضية القدرات الذهنية و اختلاف الأوساط الثقافية و الاجتماعية للمتعلّمين و التكوين الأساسي للمعلّمين و الخطاب البيداغوجي اليومي للمؤطّرين و كذلك الخطاب الرسمي للمؤسسة... فكلّها عوامل محدّدة لنجاح المسار التعلّمي... و يعتبر مفهوم "كروية الأرض" على سبيل المثال أبرز مثال في دروس الجغرافيا لتفسير استحالة تملّك مثل هذه المفاهيم المستعصية على تفكير المتعلم الناشئ. و قد بيّنت دراسة ميدانية أجريت حول تدريس "كروية الأرض" الفشل الذريع الذي مني به هذا المفهوم و ذلك بالرغم من توخّي التّمشي العلمي بما ذلك اعتبار التصورات القبلية للمتعلّمين.
و نسوق مثالا آخر للتّدليل على ما نقول و هو مستمدّ من برنامج التاريخ الذي يتناول أحداثا جدّت آلاف السنين قبل الميلاد و آخري يؤرخ لها ببدء التاريخ و ببعده... فتجد المتعلّم واجما و المعلم في حيرة من أمره لأنّ الوسائل و المعينات التربوية تعوزه، و بذلك يجبر المعلّم على التلقين و لا خيار له لأنّه مطالب بالانضباط إلى كلّ الظروف المحيطة به و المحدّدة لاختياراته.
و مجمل القول، فإنّ تصورات المتعلمين تبقى المحدّد و المحكّ البارز لنجاح الفعل التربوي الميداني بحسن توظيفها و مساعدة المتعلّم على تخطّي عقباتها و عراقيلها بإقناعه و إيقافه أوّلا على مواطن الخلل فيها و بتعارضها مع مبادئ و أسس التفكير العلمي أو بفكّ التّداخل بينها و بين الظواهر موضوع الدروس حتى تسهل ببذلك عملية بناء المعرفة و يكون المتعلّم القطب الفاعل فيها بإسهامه الإيجابي و ليس بالتّقبل و الاستهلاك...
إلاّ أنّ ذلك كلّه يظلّ منقوصا إذا لم تراعى قدرات المتعلمين الذهنية في برمجة المحتويات المعرفية و لم يكن النقل البيداغوجي موفّقا بتخليصه المفاهيم من تعقيدها العلمي و جعلها بالتالي علمية مبسّطة في متناول المتعلّم، و إذا لم يبتهج المعلم تمشّيا بيداغوجيا نشيطا يخلق الرغبة و الدّافعية و يشدّ انتباه المتعلم و يعير التصورات الاهتمام الذي تستحقه باعتبار جزءا من كيان المتعلّم الفكري...