يرى البيولوجيون أن الحياة عبارة عن نظام متناسق من التفاعلات الكيميائية. وبالطبع فليس كل نظام من التفاعلات الكيميائية يمكن أن يكون حياة. ولكن الحياة لا يمكن أن تكون بدون النظام المتناسق من هذه التفاعلات.
وتَعرُض الكائن الحي للمثيرات يؤدي إلى اختلال النظام المتناسق لتفاعلاته الكيميائية، أي اختلال إتزانه الكيميائي والحيوي الذي كان قائماً قبل تعرضه لهذه المثيرات. وفي هذه الحالة يسعى لاتخاذ استجابة معينة من شأنها أن تُعيد إليه حالة الاتزان السابقة. فتعرُض العين مثلاً للضوء يُغير من الحالة الكيميائية لشبكية العين، نتيجة سقوط الضوء عليها. وهذا التغير الكيميائي يتحول إلى تغير كهربي، وشحنة كهربية ينقلها العصب البصري إلى المخ لإتمام عملية الإبصار. ولكن إذا تعرضت العين لضوء مُبهر شديد فإن التغير الكيميائي الناتج يكون شديداً هو الآخر، إلى حد إحداث الألم، أو يعرّض شبكية العين لخطر داهم. وفي هذه الحالة يسعى العضو -العين- إلى إزالة الألم في محاولة لاستعادة الاتزان مرة أخرى، وذلك بغلق جفن العين لإبعاد تأثير الضوء المبهر الذي أدى إلى اختلال الاتزان.
ويمكن أن نضرب مثالاً آخر على هذه العملية. فتعرض الجلد لمثير مؤلم -وخز إبرة مثلاً- يؤدي إلى اختلال اتزانه نتيجة ما أحدثه المثير من تغير كيميائي في الخلايا اللمسية الموجودة على سطح الجلد. وهنا ينسحب العضو الذي تعرض للمثير بصورة آلية للابتعاد عن مصدر الألم، وبالتالي استعادة الاتزان السابق. ومثل هذه العمليات تتم على هيئة الفعل المنعكس الآلي، الذي لا يتدخل فيه الفرد.
وبشكل عام فإن الكائن الحي في حالة تعرض مستمر للمثيرات، سواء كانت مثيرات داخلية أو خارجية. وهذا التعرض يؤدي إلى توتر أعضاء الجسم، فتسعى للتخلص من هذا التوتر، بحيث تعود إلى حالة الاستقرار مرة أخرى. وتتم عملية إعادة التوازن هذه عن طريق الجهاز العصبي الذاتي، والحبل الشوكي. وبالتالي يمكن أن نعرف عملية الاتزان البيولوجي أو الحيوي على أنها العملية التي تعمل على ثبات النشاط الوظيفي للكائن الحي. وتتم هذه العملية من خلال العديد من أنظمة الضبط والسيطرة التي توجد على مستوى الخلايا والأعضاء والأجهزة، وما يربط كل هذه المستويات من علاقات.
ويميل الجسم للعمل وفق منظومة التوازن إذا أختل أحد متغيراته عن الحد المطلوب. وعلى سبيل المثال إذا أنخفض مستوى الكالسيوم في الطعام الذي يتناوله الفرد، وبالتالي قل تركيزه في الدم عن مستواه المطلوب، فإن الجسم سرعان ما يحوّل الكالسيوم الموجود في مناطق تخزينه في العظام، ليزيد مستواه في الدم مرة أخرى. وإذا زاد مستوى الكالسيوم في الدم، فإن الجسم يعمل على سحبه من الدم وتخزينه، وإفراز جزء قليل منه في البول والبراز. وهكذا الأمر لكل العناصر الهامة للجسم من سكر، ودهون، وبروتينات. وكلها محاولات للبقاء في حالة من الاتزان.
إذن فالاتزان البيولوجي أو الحيوي إتزان داخلي يشير إلى ثبات البيئة الداخلية للكائن الحي. فالعوامل الداخلية والخارجية تعمل باستمرار على تغير حالة الكائن وأنسجته وخلاياه وأعضائه. وعلى الرغم من هذا التعرض المستمر فإن وسائل التوافق والتوازن، وعوامل المقاومة داخل كل من الجهاز العصبي والجهاز الغُدي، تعمل على بقاء حالة الكائن الحي ثابتة ومستقرة برغم العوامل المتغيرة التي يتعرض لها.
وقد ظهر مصطلح الاتزان الحيوي أو الهوميوستازيس Homeostasis في أواخر القرن التاسع عشر، حين صكه والتر كانون W. Canon (1871-1945) ليُشير إلى مجموعة من العمليات البيولوجية التي تميل للحفاظ على بعض متغيرات الجسم قرب مستوى الثبات. ولتوضيح هذا المصطلح نتعرض لمفهوم التغذية المرتجعة Feedback الذي يُعد أحد المفاهيم الأساسية في علم السيبرنطيقا Cybernetics (علم الضبط والتحكم) الذي يعني مجموعة من المفاهيم التي تحكم عمل أي منظومة System تتكون من أجزاء مختلفة، وتعمل في ترابط وبعلاقات متبادلة. بحيث تتحكم المنظومة في ذاتها، معتمدة على ما تتبادله أجزاؤها من معلومات تجعل كل جزء فيها يعدل من عمله في ضوء النتائج التي تصل إليها الأجزاء الأخرى أثناء عمل المنظومة التي تهدف في عملها إلى تحقيق هدف معين.
ويمكن أن نضرب مثالاً على ذلك في المجال الكهربي وهو الثلاجة المنزلية. فطريقة عملها تعمل وفق منظومة مكونة من مجموعة أجزاء. وهذه الأجزاء تعمل في تكامل بينها لتنظيم عمل الثلاجة، وتحقيق هدف ما هو الحفاظ على درجة حرارة الغرفة الداخلية لها. وتتكون الثلاجة من غرفة تبريد، وموتور، وجهاز الإحساس بالحرارة ( ثرموستات) الذي ينظم العمل.
والثلاجة تعمل وتتوقف حسب درجة حرارة غرفة التبريد، وهي الدرجة التي نحددها سلفاً عن طريق ضبط الثرموستات. وعندما ترتفع درجة حرارة غرفة التبريد عن الدرجة المطلوبة، يشعر جزء من الثرموستات بهذه الزيادة، وينقل هذه المعلومة إلى جزء أخر منه، ينغلق فيتسبب في توصيل الدائرة الكهربية للموتور. ويقوم الأخير وفق معلومة توصيل الدائرة بالعمل لإعادة درجة غرفة التبريد إلى ما المستوى الذي كانت عليه قبل ارتفاع درجة حرارتها. وعندما تصل درجة الحرارة داخل الغرفة إلى المستوى المطلوب، تصل المعلومة مرة أخرى إلى الجزء الحساس في الثرموستات، فينقلها إلى جزء آخر يعمل على فصل الدائرة الكهربية للموتور، فيتوقف عن العمل. وهكذا تستمر هذه العملية -دون تدخل منا- حتى تحافظ هذه المنظومة على تحقيق هدفها المتمثل في الوصول بدرجة حرارة غرفة التبريد إلى مستو ثابت لا يتغير.
ويبدو من الشكل السابق أننا بإزاء منظومة تدخل لبعض أجزائها معلومات معينة نسميها مُدخَلات Inputs ، وهي المعلومات الخاصة بدرجة حرارة غرفة التبريد. وهذه المعلومات يستقبلها الثرموستات، فيعطي بدوره معلومات أخرى نسميها مُخرَجات Outputs . والتي تصل إلى الموتور ليبدأ في العمل أو يتوقف. وكل هذا يحدث في دائرة مغلقة Closed circuit تمر بها تغذية مرتجعة، ترتد من الغرفة إلى الثرموستات إلى الموتور. وهذه التغذية تعتمد على المعلومات التي تتبادلها أجزاء المنظومة، بهدف تثبيت درجة الحرارة. وهي في سبيل ذلك تمر بحالة من عدم الاستقرار تسمح بتذبذب درجة حرارة غرفة التبريد حول مستوى متوسط، سرعان ما تستعيد بعده الدرجة الثابتة المطلوبة.
- التغذية المرتجعة لدى الإنسان :-
وإذا ما انتقلنا إلى المجال الحيوي في الإنسان نجد كلاً من الجهاز العصبي والغدي يمثلان جزأين في منظومة تعمل على التحكم الذاتي في العديد من العمليات الحيوية، التي تتم داخل الجسم دون تدخل من الفرد. وتعتمد هذه المنظومة على تبادل المعلومات، أو على عملية التغذية المرتجعة. ونضرب الأمثلة على ذلك فيما يلي:-
1- تنظيم درجة حرارة الجسم:-
من المعروف أن درجة حرارة جسم الإنسان تظل ثابتة تقريباً على الرغم من اختلاف درجة حرارة البيئة المحيطة. وهذا الثبات يتم دون تدخل من الفرد. وتتراوح حرارة الجسم بين 37 درجة مئوية في وسط النهار، وحول 36 درجة مئوية في منتصف الليل. ويعد ثبات درجة الحرارة أمراً ضرورياً بالنسبة للإنسان حتى يظل معدل التفاعلات الكيميائية داخل الخلايا ثابتاً هو الأخر. ومن المعروف أن التفاعلات الكيميائية تزداد بازدياد درجة الحرارة، إلا أن معدلات التغير لا تزيد بنفس الدرجة.
وعلى ذلك تكون هناك ضرورة لثبات درجة حرارة الجسم. فكيف يمكن لنا أن نفسر هذه العملية وفق مفهوم المنظومة الذي ذكرناه آنفاً. تتكون المنظومة المتحكمة في تثبيت درجة حرارة الجسم من أجزاء عديدة، تشمل مستقبلات الحرارة الموجودة على سطح الجلد، ومجموعة الأوعية الدموية المنتشرة في الجسم كله، خلايا عصبية حساسة للحرارة توجد في بعض أنوية الهيبوثلاموس، الجهاز العصبي الذاتي، الغدد العرقية، البنكرياس، وأخيراً العضلات. وتعمل هذه المنظومة في دائرة مغلقة يمكن توضيحها في الشكل التالي
وعندما ترتفع درجة حرارة البيئة المحيطة بالفرد، فإن مستقبلات الحرارة الموجودة على سطح الجلد تستقبل هذه الزيادة وتحسها. ثم تنتقل الحرارة إلى الأوعية الدموية السطحية، فالأوعية الدموية العميقة، حتى تصل معلومة ارتفاع درجة حرارة الدم ( مدخلات) إلى الخلايا الحساسة للحرارة الموجودة في أنوية الهيبوثلاموس . وهذه الخلايا تأخذ هذه المعلومة لتصدر إشارات (مخرجات) إلى الجهاز العصبي الذاتي، الذي يقوم بتنبيه الغدد العرقية لتقوم بإفراز العرق، كما يؤدي إلى أتساع الأوعية الدموية السطحية، مما يؤدي إلى ترطيب الجسم، وانخفاض درجة حرارة الدم للمستوى الطبيعي الثابت نسبياً. وعند ذلك تنخفض درجة حرارة الدم لتصل هذه المعلومة إلى الهيبوثلاموس مرة أخرى فيتوقف عن تنبيه الجهاز العصبي الذاتي، وبالتالي يتوقف تنبيه الغدد العرقية، فيتوقف إفراز العرق، وهكذا تستمر هذه العملية.
أما في حالة انخفاض درجة حرارة البيئة المحيطة، فإن هذه المعلومة تأخذ مسارها داخل المنظومة، ولكن بدلاً من أن تصدر الأوامر إلى الغدد العرقية، نجدها صدرت إلى كل من العضلات، والبنكرياس. وفي هذه الحالة تنقبض الأوعية الدموية السطحية لمنع المزيد من تسرب حرارة الجسم (وفق القانون الفيزيقي الذي ينص على انتقال الحرارة من الجسم الأكثر سخونة إلى الجسم الأكثر برودة). كما تقوم العضلات بعمل إرتعاشات واختلاجات تعمل على توليد الطاقة، وتتناسب حدة هذه الإرتجافات مع حدة انخفاض درجة الحرارة. أما البنكرياس فيقوم بإفراز الإنسولين الذي يعمل على حرق كمية من السكر الموجود في الدم لتوليد قدر من الطاقة يُعوِض به ما فقده الجسم من حرارة. وبعد أن تتعدل درجة حرارة البيئة تصل المعلومة إلى الهيبوثلاموس، الذي يتوقف عن إصدار الأوامر إلى الأجزاء السابق تشغيلها ، .... وهكذا. وكما هو واضح في العمليتين السابقتين نجد التغذية المرتجعة تلعب دوراً كبيراً في عملية تبادل المعلومات بين أجزاء المنظومة، بما يحقق في النهاية هدفاً واحداً هو الحفاظ على درجة حرارة الجسم.
ومن الأمور الهامة التي يجب أن نذكرها هنا أن إصابة الهيبوثلاموس في المنطقة الخاصة بتنظيم درجة حرارة الجسم، يؤدي إلى اضطراب هذه العملية، وترتفع درجة حرارة الفرد حتى لو كانت درجة حرارة البيئة ثابتة. وقد تصل إلى معدل مرتفع جداً يودي بحياة المريض.
2- تنظيم مستوى السكر في الدم:-
إن ما حدث في تنظيم درجة حرارة الجسم يمكن أن نتصوره بنفس الطريقة في تنظيم مستوى السكر في الدم، مع اختلاف في بعض أجزاء المنظومة. حيث تدخلها الغدة الكظرية أيضاً، وتعمل على إفراز الأدرينالين الذي يقوم -بالإضافة إلى هرمون الجلوكاجون االذي يفرزه البنكرياس- بتحويل الجليكوجين المختزن في الكبد إلى جلوكوز يزيد من مستوى السكر في الدم، في حالات انخفاض السكر. أما في حالات زيادة مستوى السكر في الدم يقوم البنكرياس بإفراز الإنسولين الذي يعمل على أكسدة الجلوكوز، وتحويل بعضه إلى جليكوجين فتتنبه خلايا الكبد لتخزينه. ويهذه الطريقة يظل مستوى السكر ثابتاً في الدم، وهو الأمر الذي يعد ضرورياً لعمل الجهاز العصبي على نحو سليم.
3- تنظيم كمية الماء في الجسم:-
من المعروف أن الماء يعد عنصراً هاماً بالنسبة للكائن الحي على وجه العموم. فمنه تكون الحياة، وبدونه تنعدم الحياة. ويحتوي جسم الإنسان على 60% من وزنه ماء. وهذا الماء موزع داخل الخلايا (43%) وفي الدورة الدموية (8%) وبين الأنسجة والأعضاء (49%). والإنسان يتناول كميات من المياه تختلف وطبيعة الطقس الذي يعيش فيه، ونوعية الطعام الذي يتناوله. فنحن في فصل الصيف نتناول كميات كبيرة من المياه، مقارنة بما نتناوله في فصل الشتاء. كما أننا نشرب كميات كبيرة أيضاً في حالة تناولنا لطعام مُملح بشكل زائد. وتتراوح كمية المياه التي يشربها الإنسان في اليوم الواحد ما بين 2-3 لترات. وهذه الكمية لا يتم تناولها اعتباطا، وإنما يتوقف الأمر على ما يحتاجه الجسم من مياه ضرورية لحياة الخلايا. وهناك نوع من الاتزان بين كمية الماء التي يتناولها الفرد، والكمية التي يفرزها، سواء عن طريق البول أو عن طريق العرق أو في هواء الزفير. وكلنا يعرف حالات الجفاف التي تصيب الأطفال نتيجة الإصابة بالقيء والإسهال اللذين يؤديان إلى نقص كمية الماء قي الجسم، مما يتطلب سرعة تعويض هذا الفقد عن طريق المحاليل، وإلا تعرض الجسم لخطر الغيبوبة أو الموت. ويحدث ذلك عادة إذا ما فقد الإنسان ما بين 10-20% من كمية الماء بالجسم.
وشرب الماء وتناوله يعتمد على وجود مركز للعطش يوجد في الهيبوثلاموس. وخلايا هذا المركز حساسة لكمية الماء الموجودة بالدم المار بها، فإذا نقصت هذه الكمية سرعان ما يعمل الجسم على تنظيم ما يحتويه من ماء عن طريقين: الأول ترسل خلايا مركز العطش إشارات كيميائية للجهاز العصبي الذاتي تعمل على جفاف الحلق، فيندفع الفرد لتناول الماء نتيجة هذا الإحساس، مما يعوضه ما نقص من مياه جسمه. والطريق الثاني يتم في نفس الوقت حيث يرسل مركز العطش إشارات إلى الغدة النخامية لتفرز هرمون الفازوبرسين أو الهرمون المضاد لإدرار البول، ليمنع الكليتين من إفراز المزيد من البول. وبالطبع كلما زاد إفراز العرق في الصيف كلما شربنا كميات أكبر من الماء، بينما يقل هذا الإفراز في الشتاء، ويقل تناولنا للماء أيضاً.
4- تنظيم الدفعة العصبية :-
عندما يكون من المطلوب تحريك عضلة إرادية ما، تخرج الإشارات الحركية من المنطقة الحركية بالفص الجبهي بالمخ، لتسير في الحبل الشوكي، ثم يحملها بعد ذلك العصب الحركي المحرك لهذه العضلة. وهذه العملية تتم بشكل سلس دون اندفاع أو اضطراب، فكيف يحدث ذلك؟.
يوجد داخل الحبل الشوكي تركيب عصبي يطلق عليه حلقة رينشو Renchaw cell . فقبل خروج العصب المحرك لعضلة ما من الحبل الشوكي، يخرج منه فرع ينتهي بتشابك مع سلسلة من الخلايا العصبية التي تتشابك مع خلية محركة لنفس العضلة أو لعضلة أخرى مساعدة لتكفها عن النشاط. ومن ثم ينتظم معدل إطلاق الإشارات العصبية في العصب المحرك بحيث تكون الحركة متدرجة وسلسة، وبدون تبذير في الطاقة العصبية.
والحقيقة أن الأمثلة التي توضح الاتزان الداخلي كثيرة، منها تنظيم ضغط الدم، وتنظيم كمية الهرمونات... إلخ. وكل هذه العمليات تهدف إلى تحقيق درجة من الثبات الداخلي تسمح للعمليات الحيوية بالانتظام، حتى لا تتعرض حياة الكائن الحي للخطر. فارتفاع مستوى السكر في الدم بدرجة كبيرة قد يسبب الغيبوبة، بل والموت أحياناً. كما أن ارتفاع ضغط الدم بصورة كبيرة قد يؤدي إلى نزيف بالمخ يدفع الفرد حياته ثمناً له.