شركات التدخين تستهدف الأطفال والمراهقين
"مراهقو اليوم هم مدخنو الغد".. كلمة نطق بها فيليب موريس صاحب كبرى شركات التبغ في العالم، تلك الشركات التي تتساقط أقنعتها الواحد تلو الآخر لتكشف لنا العديد من وجوهها البشعة، وأخطر تلك الأقنعة هذا الذي يخفي بشاعة استهداف المراهقين منذ نعومة أظافرهم؛ بدس صور السجائر في كل ما يحبه ويتعلق به الأطفال، ثم استدراجهم لتجربتها، واستغلال كونهم على مشارف مرحلة المراهقة بربطها بالتفرد والمتعة والجنس؛ فيحاصرونهم بها من كل جانب حتى يدمنوها.
لم تأخذهم بالأطفال رحمة.. كيف وهم المصدر الوحيد لتعويض أعداد المدخنين الذين يتساقطون يوما بعد يوم من آثار التدخين؟.
وبالرغم من أن شركات التبغ وقَّعت تعهدا بعدم تسويق منتجاتها للأطفال بشكل مباشر أو غير مباشر في عام 1998؛ إلا أنها لم تمتثل لهذا التعهد، وفي الأعوام الثلاثة التالية رفعت نسبة الأموال التي تضخها في التسويق إلى 66.6% لتصل إلى 11.2 بليون دولار في عام 2001، حسب تقرير اللجنة الفيدرالية للتجارة.
إحصائيات ومؤامرات
90% من المدخنين يبدءون التدخين قبل بلوغهم سن الـ21، و60% منهم يبدءونه قبل سن الـ 14، لذا قامت جميع شركات التبغ بدراسات عدة لفهم سيكولوجية المراهقين ومعرفة احتياجاتهم والسبل المثلى للتأثير عليهم. وقسمت عملية التدخين -من تجربة أول سيجارة حتى إدمانها- إلى عدة مراحل، ووضعت إستراتيجيات لكل مرحلة، مستهدفة الأخذ بأيدي الأطفال منذ البداية لصعود سلم التدخين خطوة فخطوة؛ فيداومون عليها، ثم يدمنونها.
كان التركيز الأكبر على مرحلة المراهقة لعدة أسباب، أهمها:
- أنها مرحلة يتحول فيها المراهق من مجرد "مجرب" للتدخين إلى "مداوم" عليه، وهذا التحول يصاحبه ازدياد كبير في الاستهلاك.
- مرور المراهق بعدة مراحل انتقالية تمنح فرصا لتوحد التدخين مع الأنشطة المختلفة؛ ليصبح شيئا معتادا مع ممارسة الأنشطة الجديدة.
- الضغوط النفسية المصاحبة لهذه المرحلة الانتقالية تزيد من الإقبال على التدخين؛ نتيجة مفعول مادة النيكوتين الإدماني.
ويبدأ مخطط الإيقاع بالمراهقين باستهدافهم وهم أطفال؛ لضمان غرس الصورة المبهرة للمدخن فى أذهانهم منذ أعوامهم الأولى، حتى تصبح حاجةً يجب إشباعها بمجرد وصولهم مرحلة المراهقة، إن لم يكن قبلها.
وقد وُجد في المستندات الداخلية لشركات التبغ دراسات قاموا بها على أطفال يبلغون من العمر خمس سنوات، ودراسات أخرى وصلت لأعمار أقل.
وعندما سئل ممثل شركة ر.ج. راينولدز للتبغ عن الحد الأدنى لعمر الشريحة المستهدفة لأحد الدراسات قال: "كل من له شفاه فنحن نريده".
جعلوني مدخنا
البطريق الشقي جعلوه مدخناً
وللترويج للتدخين اختلفت السبل وكثرت، وكان من ضمنها التسويق للسجائر عن طريق استخدام الرسوم المتحركة، كشخصية "جو كامل"Joe Camel المروجة لنوع سجائر "كامل"Camel التي تنتجها شركة ر.ج. راينولدز، وكان تأثير شخصية "جو كامل" كبيرا جدا؛ حتى إن دراسة نشرت بجريدة الجمعية الطبية الأمريكية أوضحت أن ثلث الأطفال البالغين من العمر ثلاثة أعوام يربطون "جو كامل" بالسجائر، والأطفال البالغون من العمر السادسة يعرفون "جو كامل" كما يعرفون "ميكي ماوس".
وهذا ما جعل سجائر" كامل" التي كانت لا تحتل من السوق الأمريكية للمدخنين تحت سن 18 سنة سوى 1%؛ تسيطر على ثلث هذه السوق خلال ثلاثة أعوام، وتدر حوالي 470 مليون دولار مبيعات لر.ج. راينولدز؛ وهو ما جعل شركة "التبغ البريطاني الأمريكي" تبتكر شخصية البطريق الشقي "Willie the Kool" لتزداد شعبيتها هي الأخرى لدى الأطفال والمراهقين، وقد تم استغلال الأفلام المتحركة بشكل أكبر عن طريق زيادة مشاهد التدخين بها.
ولم تكتف شركات التبغ بهذا للترويج للأطفال، فاتفقت مع شركات الحلوى والعلك، مثل "كاندي وورلدز" و"فيكتوري سويتس" على إنتاج حلوى وعلك للأطفال على شكل سجائر تلف بورق بني عند نهايتها ممثلة الفيلتر، وعندما ينفخ بها الطفل ينفجر السكر بها ليشكل هالات تشبه هالات الدخان، وتغلف بعلب تشبه إلى حد كبير تصميم مختلف أنواع علب السجائر، وتسمى بأسماء مشابهة لها!!.
ولضمان انتشار هذه الحلوى تم طرحها في الأسواق بأسعار أرخص من مثيلاتها. وبالفعل كان لهذه الحلوى تأثير كبير على سلوك الأطفال؛ فقد أجريت دراسة على تلاميذ السنة السادسة بالمدارس، وأوضحت أن التلاميذ الذين أقبلوا على شراء حلوى السجائر نسبة إقبالهم على التدخين ضعف من لم يشتروها.
ومن أجل محاصرة 28 مليونا من التلاميذ الأمريكيين بالعلامات التجارية للسجائر أخذت شركة فيليب موريس منذ عام 2000 في توزيع الكتب المدرسية واضعة علامة الشركة عليها مصحوبة بشعار Think, Don't Smoke" أو "فكر.. لا تدخن"، وكتبت "لا" بلون مختلف أقل لفتا للانتباه من باقي كلمات الشعار، حتى أصبحت الرسالة التى تعلق بأذهانهم "فكر تدخن".
وتستمر الألاعيب
ليوناردو ديكابريو أحد النجوم الشباب في أحد أفلامه
وبعد كل هذه الجهود في تعريف الأطفال بالسجائر وأسماء شركاتها، لم يبق لشركات التبغ سوى التغيير في السجائر نفسها؛ حتى لا تكون قوة طعم سمها القاتل عائقا أمام استساغة هؤلاء الأطفال والمراهقين لها، وقد أدركت الشركات منذ بداية الثمانينيات حقيقة أن السجائر التي يفضلها الصغار تزداد مبيعاتها بشكل عام عن التى يتجنبونها؛ لذا تسابقت الشركات في إنتاج سجائر أكثر "حلاوة ولطفا"!!.
وكمثال على ذلك: الدراسة التي وجدت ضمن الوثائق الداخلية لشركة ر.ج.ر للتبغ، والتي تضمنت محاولات التغيير عبر عمل توليفة يزيد فيها مفعول النيكوتين؛ لخمد مراكز الأعصاب التى تستقبل وتشعر بحدته، وتحفيز حاسة التذوق، مع اقتراح نكهات تحفز جريان الريق وإضافة طعم الشيكولاتة والفانيليا والعرقسوس.
ولا ينتهي دور شركات التبغ هنا، بل تصحب الطفل في مرحلة المراهقة لبلورة صورة المدخن الثائر، المتمرد، المفعم بالحيوية والرجولة.. وبالطبع لا يوجد أفضل من نجوم السينما لتشخيص هذه الصورة؛ لجعل المراهق يتمسك بالسجائر، أملا منه في أن يبدو مثلهم.
وانتشرت مشاهد التدخين في السينما بشكل كبير، حتى وصلت إلى 80% من أفضل الأفلام الأمريكية، كما جاء في دراسة نشرت في جريدة "ذا لانسيت" العلمية؛ فأشهر نجوم السينما كانوا يظهرون بالسيجارة في أفلامهم.
وقامت جامعة دارتموث الأمريكية بدراسة تأثير هذا على المراهقين، وكانت نتيجتها أن المراهقين الذين يفضلون النجوم المدخنين، فإن احتمالية أن يصبحوا مدخنين تعادل 16 مرة ضِعف أقرانهم الذين لا يفضلون النجوم المدخنين.
وحتى تكتمل هذه الصورة المرجوة أمطرت الشركات المراهقين بملابس وكماليات على أحدث صيحات الموضة، تحمل علاماتهم التجارية من قمصان وقبعات إلى شنط ونظارات، ولم تكن الشركات لتقف لترى هل ستنتج مجهوداتها فعلا أم لا، بل كانت تداهم "تلاميذ المدارس" بسيارات رباعية وفتيات في زي رعاة البقر، توزع عليهم علب السجائر مجانا.
لم يكن المظهر الخارجي هو كل ما ركزت عليه شركات التبغ، بل استغلت طبيعة هذه المرحلة واحتياجاتها النفسية، وربطت التدخين بالعديد من أنشطة المراهقين الاجتماعية مثل: الجلوس بالمقاهي، والرحلات، والحفلات الموسيقية، لتجعل انخراطه في التدخين أساسا لتقبُّل أقرانه له واندماجه معهم، وأصبحت السجائر أول المتواجدين في هذه الأماكن إما بإعلاناتها، أو توزيعها مجانا، أو بعمل مسابقات على هداياها، أو رعايتها وتمويلها للحدث نفسه.
والأدهى من ذلك أنها لم تكتف بالأنشطة الاجتماعية، وامتدت للرياضية؛ لتمزج الصحة واللياقة بالتدخين، وتمحو أية رواسب سلبية عنها، مثل الموت أو الإصابة بالأمراض، عبر الإثارة والنصر والبطولة.
عندما سقط القناع
وعندما بدأت تنكشف ألاعيب شركات التبغ لبست الشركات ثوب البراءة والخوف على الصالح العام، وقامت بإعداد برامج للأطفال لحثهم على عدم التدخين!! وبالطبع لم يكن لها أي تأثير إيجابي على الأطفال؛ حيث لم تتضمن أي منها ذكر مخاطر النيكوتين والأمراض التي تسببها السجائر، بل ركزت على أنه يجب على "الأطفال" عدم التدخين لأنها تختص "بالبالغين" فقط وبحريتهم في اتخاذ قراراتهم الشخصية؛ مما كان يُذكي في نفوس الأطفال فكرتهم عن السجائر، وأنها سبيلهم للتعبير عن نضوجهم واستقلالهم.
فضلا عن أن هذه البرامج ساعدت شركات التبغ في محاربتها للقوانين التي كانت تريد أن تسنها الكثير من الدول للحد من تسويق وبيع السجائر. وفى الوقت ذاته أشعلت شركات التبغ النيران على برامج توعية المراهقين بأضرار التدخين وبمخططات شركاته، مثل التي تقوم بها مؤسسة التراث الأمريكي التي قاضتها شركة تبغ لوريلارد مدعية أنها تشهر بها وبالعاملين، في محاولة منها لوقف حملاتها واستنفاذ مواردها في تكاليف الدفاع، ولكن في النهاية لم تستطع الشركة إثبات اتهاماتها الملفقة.
كل هذا كان يخفيه قناع واحد من أقنعة شركات التدخين الكثيرة، التي -وبالرغم من سقوط بعضها- ما زالت تودي بحياة الملايين كل عام.